الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أخرج البيهقي في الدلائل عن حذيفة بن اليمان قال: كنت آخذًا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به وعمار يسوق أو أنا أسوق وعمار يقود حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثنى عشر راكبًا قد اعترضوا فيها فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرخ بهم فولوا مدبرين فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل عرفتم القوم؟ قلنا: لا يا رسول الله كانوا متلثمين ولكن قد عرفنا الركاب قال: هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة.هل تدرون ما أرادوا؟ قلنا: لا، قال: أرادوا أن يزلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة فيلقوه منها قلنا: يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث لك كل قوم برأس صاحبهم قال: أكره أن يتحدث العرب عنا أن محمدًا عليه الصلاة والسلام قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله تعالى بهم أقبل عليهم يقتلهم، ثم قال: «اللهم ارمهم بالدبيلة»، قلنا: يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال: «شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك». وكانوا كلهم كما أخرج ابن سعد عن نافع بن جبير من الأنصار أو من حلفائهم ليس فيهم قرشي، ونقل الطبرسي عن الباقر رضي الله تعالى عنه أن ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب لا يعول عليه.وقد ذكر البيهقي من رواية ابن إسحاق أسماءهم وعد منهم الجلاس بن سويد، ويشكل عليه رواية أنه تاب وحسنت توبته مع قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر «هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة» إلا أن يقال: إن ذلك باعتبار الغالب، وقيل: المراد بالموصول إخراج المؤمنين من المدينة على ما تضمنه الخبر المار عن قتادة، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدى وأبو الشيخ عنه وعن أبي صالح أنهم أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي بتاج ويجعلوه حكمًا ورئيسًا بينهم وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: أرادوا أن يقتلوا عميرًا رده على الجلاس كما مر.{وَمَا نَقَمُوا} أي ما كرهوا وعابوا شيئًا {إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} فالاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي وما نقموا الإيمان لأجل شيء إلا لإغناء الله تعالى إياهم فيكون الاستثناء مفرغًا من أعم العلل وهو على حد قولهم: مالي عندك ذنب إلا أني أحسنت إليك.وقوله:
وهو متصل على إدعاء دخوله بناء على القول بأن الاستثناء المفرغ لا يكون منقطعًا، وفيه تهكم وتأكيد الشيء بخلافة كقوله: البيت، وأصل النقمة كما قال الراغب الإنكار باللسان والعقوبة والأمر على الأول ظاهر وأما على الثاني فيحتاج إلى الاتكاب المجاز بأن يراد وجدان ما يورث النقمة ويقتضيه، وضمير {أَغْنَاهُمُ} للمنافقين على ما هو الظاهر، وكان إغناؤهم بأخذ الدية، فقد روي أنه كان للجلاس مولى قتل وقد غلب على ديته فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها اثنى عشر ألفًا فأخذها واستغنى، وعن قتادة أن الدية كانت لعبد الله بن أبي وزيادة الألفين كانت على عادتهم في الزيادة على الدية تكرمًا وكانوا يسمونها شنقًا كما في الصحاح.وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة قال: كان جلاس تحمل حمالة أو كان عليه دين فأدى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك قوله سبحانه: {وَمَا نَقَمُواْ} الآية، ولا يخفى أن الاغناء على الأول أظهر، وقيل: كان إغناؤهم بما من الله تعالى به من الغنائم فقد كانوا كما قال الكلبي قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة محاويج في ضنك من العيش فلما قدم عليه الصلاة والسلام أثروا بها، والضمير على هذا يجوز أن يكون للمؤمنين فيكون الكلام متضمنًا ذم المنافقين بالحسد كما أنه على الأول متضمن لذمهم بالكفر وترك الشكر، وتوحيد ضير فضله لا يخفى وجهه {فَإِن يَتُوبُواْ} عما عم عليه من القبائح {يَكُ} أي التوب، وقيل: أي التوبة ويغتفر مثل ذلك في المصادر.وقد يقال: التذكير باعتبار الخبر أعني قوله سبحانه: {خَيْرًا لَّهُمْ} أي في الدارين، وهذه الآية على ما في بعض الروايات كانت سببًا لتوبته وحسن إسلامه لطفًا من الله تعالى به وكرمًا {وَإِن يَتَوَلَّوْا} أي استمروا على ما كانوا عليه من التولي والاعراض عن إخلاص الإيمان أو أعرضوا عن التوبة.{يُعَذّبْهُمُ الله عَذَابًا أَلِيمًا في الدنيا} بمتاعب النفاق وسوء الذكر ونحو ذلك، وقيل: المراد بعذاب الدنيا عذاب القبر أو ما يشاهدونه عند الموت، وقيل: المراد به القتل ونحوه على معنى أنهم يقتلون إن أظهروا الكفر بناءًا على أن التولي مظنة الإظهار فلا ينافي ما تقدم من أنهم لا يقتلون وأن الجهاد في حقهم غير ما هو المتبادر.{والاخرة} وعذابهم فيها بالنار وغيرها من أفانين العقاب {وَمَا لَهُمْ في الأرض} أي في الدنيا، والتعبير بذلك للتعميم أي ما لهم في جميع بقاعها وسائر أقطارها {مِن وَلِىّ وَلاَ نَصِيرٍ} ينقذهم من العذاب بالشفاعة أو المدافعة، وخص ذلك في الدنيا لأنه لا ولي ولا نصير لهم في الآخرة قطعًا فلا حاجة لنفيه. اهـ.
وقول النابغة: ويقال: نقم من فلان الإحسان، كعلم إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة كما في التاج.ثم دعاهم تعالى إلى التوبة بقوله: {فَإِنْ يَتُوبُوا} أي: من الكفر والنفاق {يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا} أي: بالقتل والهم والغم {وَالْآخِرَةِ} أي: بالنار وغيرها {وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ} أي: يشفع لهم في دفع العذاب.{وَلا نَصِيرٍ} أي: فيدفعه بقوته. اهـ.
فكلمة الكفر جنس لكلّ كلام فيه تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم كما أطلقت كلمة الإسلام على شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله.فالكلمات الصادرة عنهم على اختلافها، ما هي إلاّ أفرادٌ من هذا الجنس كما دلّ عليه إسناد القول إلى ضمير جماعةِ المنافقين.فعن قتادة: لا عِلْمَ لنا بأنّ ذلك من أيّ إذ كان لا خبر يوجب الحجّة ونتوصّل به إلى العلم.وقيل: المراد كلمة صدرت من بعض المنافقين تدلّ على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم فعن عروة بن الزبير، ومجاهد، وابن إسحاق أنّ الجُلاَسَ بضم الجيم وتخفيف اللام بنَ سُويد بننِ الصامت قال: لئن كان ما يقول محمد حقًّا لنحن أشرّ من حميرنا هذه التي نحن عليها، فأخبَر عنه ربيبُه النبي فدعاه النبي وسأله عن مقالته، فحلف بالله ما قال ذلك، وقيل: بل نزلت في عبد الله بن أُبي بن سَلُول لقوله الذي حكاه الله عنه بقوله: {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليُخْرِجَنّ الأعز منها الأذلّ} [المنافقون: 8] فسعى به رجل من المسلمين فأرسل إليه رسول الله فسأله فجعل يحلف بالله ما قال ذلك.
|